المدنية الحديثة ومأزق الديموقراطية ( جريدة الوطن السعودية )

محمد العتيبي - جريدة الوطن 22 فبراير 2020
يتطلع البعض لديموقراطية تحاول الجمع بين القيم الأساسية العليا للدين بقراءة حديثة ( كالعدل والحرية والمساواة وسيادة القانون واحترام رأي الأفراد وحرية التعبير .. الخ ) وبين دولة مدنية حديثة تعبر عن آمال الناس وطموحاتهم ، وهذه الديموقراطية بلاشك تمنح الأفراد الحقوق والضمانات الإجتماعية ولكنها للأسف في نفس الوقت قد تجعلهم عرضة لأن يكونوا ضحايا تتحكم بهم البيروقراطية ( من قوى مالية وشركات كبرى وإعلام ) وتسير الأحداث وتقرر مصائرهم ، وذلك مشاهد في الدول الديموقراطية العريقة من خلال إنخفاض عدد المقترعين وبسبب الفساد المالي وتلوث فكر بعض الساسة وتدخل الأحزاب وتحكمها ، وكل ماسبق ولد شعور الأفراد بعدم جدوى مشاركتهم السياسية .
 ولأن التغيير الحقيقي لأي مجتمع مدني يتطلع للديموقراطية لايتم إلا بتغيير مابداخل أفراده - وبحسب التوجيهات السماوية ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد 11 - من خلال تبديد الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديموقراطي فقد جاء الاسلام - الذي يحث على مصالح الدنيا والآخرة - وزرع في الشخصية المسلمة قيم عليا تفوق كل القيم والإعتبارات الإجتماعية والسياسية التي تعبر عنها البلدان التي تسعى للديموقراطية من خلال ماهو منصوص في دساتيرها ، ويجب أن لاننسى أن إرادة الإنسان وسلطته لاتنحصر في قيم ومعايير المدنية التي تقرر بأن الحياة ليست سوى مجال لتبادل المنافع المادية متجاهلة للغيب ومابعد الموت من حساب ولكن القيم الحقيقية للديموقراطية في الإسلام هي تلك التي تجعل الإنسان حرا مكرما - كما قال عنه خالقه عزوجل : ( [ ولقد كرمنا بني آدم .. ] سورة الإسراء 70 ) - لايرضى بالذل والإهانة والظلم من خلال شعور ديموقراطي تجاه ال ( انا ) والآخرين ومن خلال شروط ثقافية إجتماعية وأسباب تاريخية مهمة تولد هذا الشعور في نفس الإنسان في عملية تنظيمية تكاملية كما ذكرت تحفظ كرامته وتكفل حقوقه مع غيره من البشر .

لذلك فالآمال والطموحات التي تتطلع لها المجتمعات للوصول للدولة المدنية الحديثة هي في حقيقتها مغروسة في الضمير المسلم بتكريم رباني وشعور إيجابي يسيطر عليه ليقدر قيمة ذاته وقيمة غيره كي لايقع في هاوية العبودية أو الإستعباد والتي حاولت البلاد الغربية أن تتخلص منها من خلال الحركات الإنسانية عبر القرون متمثلة في عصر النهضة الحديثة إبتداء من الثورة الفرنسية وماجاء بعدها ، والديموقراطية والوصول اليها لايمكن أن تتحقق بحال من الأحوال من خلال دستور شكلي لايراعي شروطها وعناصرها الثقافية المكونة للشخصية الإنسانية وسماتها بعاداتها وتقاليدها وأبعادها النفسية والسلوكية وبكل شعورها وانفعالاتها ومقاييسها الذاتية والإجتماعية التي ترفع من قيمة الإنسان وقدره مجددا بعدما تلوث برواسب الذل ودوافع الظلم وقهر العباد ، وفي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة بالإجماع إشارات ومقدمات ومباديء تؤسس للديموقراطية على أصولها وتؤكد على تكريم الإنسان في كل مايتعلق بشؤونه إجتماعيا واقتصاديا وسياسيا والتي تجاوز بها كل القوانين والدساتير الوضعية في بعض البلدان التي تسعى لتحقيق المدنية كقضية الرق والتمييز وموضوع الصدقات والزكاة وتحريم الرباء وعدالة القضاء وكذلك في حرية التعبير والعمل والتنقل وحماية الحرية الفكرية والعقدية وحتى في جانب الحكم من مبايعة ومبدأ للشورى ، وهذا التكريم الرباني بلاشك هو ترجمة حقيقية لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم والتي تظهر نتائجها الإيجابية الملموسة اجتماعيا على أرض الواقع واضحة للعيان .
إذن هي مباديء ونظريات وحقوق طبيعية كفلها الخالق عزوجل للمخلوق بعكس الضمانات والقوانين المدنية الوضعية التي كما ذكرت قابلة للمصالح والمنافع البشرية عندما لاتفعل نصوصها ودساتيرها وذلك بلا شك يؤدي لأزمات إجتماعية نتيجة لتوحش الأنظمة المادية بأشكالها الرأسمالية .



https://www.alwatan.com.sa/article/1037568/%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B4%D8%A7%D8%AA-/%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تأجيل الدراسة أو التعليم عن بعد ( جريدة الرياض )

قصة بر " هند " بوالدتها واقعية ومعبرة ( صحيفة الشرق السعودية )

غسيل أفكار ( جريدة الرياض )