تحكيم نصوص الشرع بين النقل والعقل ( صحيفة الوطن السعودية )

محمد العتيبي - صحيفة الوطن السعودية 9/9/2018

يقول ابن تيمية رحمه الله: «يجب الفرق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته، فالأول من مُحالات العقول والثاني من محارات العقول والرّسل يُخبرون بالثاني». ‏
كلنا يعلم أن المؤمن مأمور بتكاليف شرعية مستمدة من الوحي، ليس له فيها إلا الإقرار والتسليم، بناء على إسلامه الذي ارتضاه لنفسه وما تقتضيه الشهادتين، بغض النظر عن معرفته وفهمه للنص الشرعي «النقل» المنقول لنا من القرآن الكريم أو السنة الثابتة -التي لا تخالف العقل- وكذلك بغض النظر عن الحكمة من فرضه، ولا مانع بلا شك أن يستخدم المسلم عقله في فهم النص والحكم الشرعي، بشرط ألا يلغيه.
هل سألت نفسك يوما: ما الحكمة أن نصلي الفجر ركعتين والظهر أربعا والمغرب ثلاثا؟ ولماذا في حال المسح على الخفين نمسح أعلاهما والعقل والمنطق يقول أسفلهما أحق بالطهارة؟! 
في شرع الله عز وجل، ‏ليس هناك تعارض بين النقل والعقل «والنقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح كما يقول ابن تيمية رحمه الله»، ومن لا يفهم النصوص حين تشكل عليه، من الخطأ أن يشكك فيها، فالله عز وجل ذكر مشتقات العقل في القرآن الكريم في كثير من الموضوعات، إذ خاطب أهل العقول ليثبت دور العقل وكفاءته في التفكير، وفي الوقت نفسه فهناك أوامر وغيبيات تثبت قصور العقل، فحين تُنقل إلينا آية من القرآن أو حديث صحيح لا سبيل للعقل إليهما بسبب عجزه وقصوره -كالمعجزات النبوية أو الأخبار الغيبية عن النار والجنة وغيرها- فهذه من محارات العقول التي لا تخالف العقل ولكنها تحيره وتعجزه، فالمؤمن حينها يقبلها ويقرها، والمكذب الجاهل يرفضها ويردها. ‏
البعض ممن تأثروا بالفلسفة الغربية المادية، جعلوا العقل موازيا للنص في التحكيم والتشريع، محاولين عقلنة الدين بكل بساطة، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التعدي على بعض أحكامه وتجميدها «هذا لا يصح، لا يجوز، غير مناسب لهذا العصر... إلخ»!
وربما استشهد بعضهم بمقولة مطلقة لعباس العقاد في كتابه «التفكير فريضة إسلامية»، إذ يقول: «ومن قال إن العمل بالنص يعني العمل بغير فهم فليس هو من الإسلام في شيء»! 
الحقيقة، ليس شرطا أن كل ما نقل إلينا من القرآن والسنة من نصوص وأحكام شرعية يجب أن نحفظها أو نفهمها فهما عميقا ودقيقا كي نعمل بها ونكون من الإسلام في شيء، ولكننا مأمورون بالاتباع والتعبد كما ذكرت في مطلع المقال.
الشرع لم يأمرنا بالرجوع إلى العقل في كل شيء في تقبلنا للنصوص، ولكن إعماله يكون في عدة مواضع وأحوال، قررها علماء الشريعة الراسخون، كمخاطبة غير المسلمين من أهل الأديان بالمشتركات التي بيننا وبينهم، أو العقلانيين خلال الأدلة العقلية، وفي حال العلل المناطة وهو الموضع الذي يتنزل عليه الحكم الشرعي أو العلة المؤثرة فيه، وكذلك حال الاستدلال في طلب الدليل على الحكم أو الحكم على الدليل هل هو صحيح أو غير صحيح.
مناقشة الحكم الشرعي هو تشكيك واضح وما يحدث من هؤلاء المتأثرين بالعقلية المادية هو مناقشة للأحكام، والعقل الذي يقصدونه لا يتجاوز الهوى ورغبات النفس دون تجرد في النظر إلى الدليل، فهم يعلقون الاستدلال باعتقاداتهم وما يؤمنون به، ولذلك لا يمكن للعقل البشري القاصر أن يوازي النص المنقول في التحكيم والتشريع.. والله أعلى وأعلم.

http://www.alwatan.com.sa/Discussion/News_Detail.aspx?ArticleID=347051&CategoryID=8

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تأجيل الدراسة أو التعليم عن بعد ( جريدة الرياض )

قصة بر " هند " بوالدتها واقعية ومعبرة ( صحيفة الشرق السعودية )

غسيل أفكار ( جريدة الرياض )