الإنطوائية والعبقرية ؟! ( صحيفة الرياض )

شاع عند كثير من الناس أن الانطوائية أمر سلبي وأنها حالة مرضية تستدعي التدخل لعلاجها، وتصور صاحبها بمنظر حزين وكئيب يحمل بداخله العدوانية والكراهية للآخرين، والعكس من ذلك الشخصية الاجتماعية (الانبساطية) والتي تصور بأنها هي الوضع الطبيعي.

وليس المقام هنا لتفضيل شخصية على أخرى، ولكن تسليط الضوء على الشخصية الانطوائية والنظرة القاصرة تجاهها هما بمثابة التحفيز للانطوائيين ليتعرف كل فرد منهم على مواطن الضعف والقوة في شخصيته لتكون حافزا له على الوصول لما يريد، وليتعايش معها بانسجام وتوافق وإيجابية.

ولو تمعنا في الشخصية الانطوائية التي تميل للعزلة الموقتة في كثير من الأحيان سنجد بأنها شخصية مميزة مبدعة ومستقلة فكريا في غالب أحوالها، حيث أثبت الواقع وأثبتت الدراسات العلمية ذلك، ولا ننسى أن العظماء على مر التاريخ يمتلكون هذه الشخصية، أمثال بيل جيتس وغاندي وعباس العقاد وغازي القصيبي والذي ذكر في أحد مقالاته (كائن غير اجتماعي) بأن الرغبة الشديدة في الانطواء تغلب عليه لدرجة قد تصل إلى الخجل وبأنه يتهيب لقاء من لا يعرفهم ولا يشعر بالراحة عند ملاقاة الجمهور الكبير!

ويقول عباس العقاد عن نفسه: أعترف أنني مطبوع على الانطواء لكني خال من العقد النفسية، ويلجأ الانطوائيون غالبا للصمت والهدوء لأنهم يرون أن الكلام الزائد عن الحاجة يضر أكثر مما يفيد، وهناك فرق بين الصمت الإيجابي لهذه الانطوائية وبين صمت (الخجل) السلبي الذي ينتج بسبب الخوف من الكلام والتعامل مع الآخرين خشية الوقوع في الخطأ والتوبيخ.

ويشعر الانطوائي بأنه وحيد بين الناس فليس من السهولة أن تجده مندمجا مع الآخرين، وحتى عندما يقرر أن يكون علاقات وصداقات فهي محدودة وضيقة وتأخذ وقتا طويلا بترو وحذر، وحينما يجد من يشابه أفكاره واهتماماته يتحدث في موضوع معين فإنه يتداخل معه في صلب الموضوع ويتعمق بعكس الاجتماعي الذي تكمن متعته بكثرة العلاقات – وإن اختلفت الاهتمامات - والتي تبنى وتتكون من خلال انطباعات أولية وأسئلة عامة في لقاءات قصيرة وعابرة (ما اسمك /‏ أين تعمل /‏ كم عمرك.. الخ).

وبذلك نجد أن علاقات وصداقات الانطوائيين أكثر ديمومة من الانبساطيين رغم كثرة علاقاتهم والتي يعتقدون بأنها السبيل الوحيد لتجديد نشاطهم وشحن أنفسهم بعد يوم شاق ومرهق، وتكمن متعة الانطوائي في عزلته الموقتة ليستعيد طاقته وقوته المستنزفة طوال اليوم ليستعين بها على الغد ولا تستغرب أن تستغرق هذه العزلة يوما أو عدة أيام يمكثها في البيت بينما الاجتماعي لا يطيق ذلك!

وفي طريقة التفكير نجد بأن الشخص الانطوائي ينغمس في التفاصيل الصغيرة للأحداث من كل جوانبها - يحللها ويتفحصها ويقومها - وفي مشاعره وأفكاره الداخلية كذلك بينما نجد أن الاجتماعيين يعيشون ويندمجون في دوائر خارجية مع البشر والأنشطة والأحداث ينسون أنفسهم من خلالها بعيدا عن التفاعلات الداخلية.

تقول الكاتبة سوزان كين في كتابها (الهدوء قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام): العزلة ليست كراهية لأحدهم أو عزوفا عن مجالسهم إنما يرى من يمارسها أن فيها اكتفاء بذاته وإيقاظا لما مات في حضرة الناس، العزلة حياة أردنا أن نحياها بحضرة أنفسنا)، وهنا همسة للآباء والأمهات والمربين بأن يدعوا أطفالهم على سجيتهم وفطرتهم في اختيارهم للعزلة والهدوء، وألا يجبروهم على الاختلاط بالأطفال الآخرين واللعب معهم، فلربما الانطواء والقدرة على الانفراد بالذات أوقات طويلة من شأنه أن يصنع منهم مفكرين عظماء في المستقبل .

 يقول العقاد : ( عدم الإكتراث لازمة من لوازم العبقريين الرجُل العبقري عالمهُ في نفسه ) وينقل عن الأديب زكي مبارك أنه سُئل عن سبب الفرق بين حديثه وبين كتاباته فهو مؤلف عظيم ومُتحدّث سخيف ؟! فأجاب : ( بحثت عن السبب فعرفتُ أنه يرجع إلى أني حين أؤلف أكون مع نفسي وحين أتحدث أكون معكم ! ) وهذا دليل على أن الإبداع والإنتاج والعبقرية مرتبطة غالبا - وتزيد - بالعزلة والإنطوائية على عكس مخالطة الجماعة التي قد تقيد الفكر في كثير من الأحيان .


محمد العتيبي _جريدة الرياض 9 مايو 2019







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تأجيل الدراسة أو التعليم عن بعد ( جريدة الرياض )

قصة بر " هند " بوالدتها واقعية ومعبرة ( صحيفة الشرق السعودية )

غسيل أفكار ( جريدة الرياض )